القائمة

عمليات جراحيّة لتضليل عيون إسرائيل!

في الأسابيع الأخيرة، عاد الحديث ليطفو إلى السطح حول ملف ظلّ طيّ الكتمان طوال أشهر: خضوع عدد من كبار مسؤولي “حزب اللّه” لعمليات تجميل وإعادة بناء للوجه، بعضها في لبنان وبعضها الآخر في العراق وإيران، تحت إشراف فرق مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني. المعلومات التي بثها عدد من وسائل الإعلام ونقلتها مصادر قريبة من “الحزب”، لا تتعلّق فقط بجرحى سقطوا خلال المواجهات مع إسرائيل العام الماضي، بل تشمل أيضًا قادة ميدانيين وسياسيين لم تُسجَّل بهم إصابات مباشرة، ما يدلّ على أن الدافع لم يكن طبيًّا فحسب، بل أمنيًّا واستباقيًّا.

فخلال الحرب الأخيرة، وبحسب ما نقلت قنوات عربية عن وسائل إعلام إسرائيلية، اعتمد الجيش الإسرائيلي على شبكة واسعة من الاستطلاع الجوّي والطائرات المسيّرة وتقنيات التعرّف على الوجوه المرتبطة بأنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على تحديد هوية شخص من خلال صور قديمة أو حديثة، أو حتى عبر كاميرات الشوارع المغلقة. وفي بيئة جنوب لبنان، حيث الكاميرات، والطائرات المسيّرة، والمراقبة الإلكترونية باتت جزءًا من المشهد اليوميّ، لم يعد الاختفاء خلف اللثام كافيًا.

هنا تحديدًا، يصبح تغيير الملامح جزءًا من استراتيجية حماية القياديين من الاستهداف الدقيق، خصوصًا بعد سلسلة ضربات إسرائيلية استهدفت شخصيات قيادية عبر تتبّع بصريّ وشبكات اتصالات مشفرة.

“تبقى البصمة البيومترية ثابتة”

وفي هذا السياق، اعتبر مصدر طبيّ لـ “نداء الوطن” أن “عمليات التجميل قادرة على تغيير المظهر الخارجي بدرجات متفاوتة، لكن ليست قادرة على إلغاء البنية التشريحية الأصلية بالكامل”، موضحًا أن “التغيّر يكون في الطبقات السطحية: الجلد، الدهون، العضلات أحيانًا، بينما البنية العظمية، شكل الجمجمة، وموقع العينين والفم والأنف تبقى مؤشرات قويّة يمكن للتقنيات الحديثة التعرّف عليها”.

وقال: “ما يمكن تغييره نسبيًا هو : شكل الأنف، الفك والذقن، الخدود والجبهة من خلال الـ fillers أو إخفاء بعض التضاريس، كذلك العيون: كعمليات رفع الجفن، وتعديل الأذن، الشفاه، والحاجبين، لكن ما لا يمكن تغييره كليًا هو: المسافات النسبية بين الأعضاء، شكل الجمجمة، وبنية الجبهة، ولكن من منظور التعرّف البيومتري: حتى بعد الجراحة التجميلية الشاملة، أنظمة التعرّف على الوجوه الحديثة أي الـFacial Recognition AI يمكنها اكتشاف التطابق بنسبة تفوق 70 إلى 80 % عبر تحليل النقاط العميقة (Deep facial landmarks) لا المظهر السطحي فقط، وهذا يعني بشكل آخر، أنه قد “يتوه” الإنسان عن معارفه، لكن ليس عن الكاميرات”.

أمّا بالنسبة للعدسات وتغيير بصمة العين، فشدّد المصدر الطبيّ على أن “العدسات اللاصقة مهما كانت متطوّرة لا تغيّر البنية الداخلية للقزحية، بل تخفي لونها موقتًا فقط، لكن أنظمة التعرّف على بصمة القزحية أي الـ Iris scanners تعتمد على تصوير النمط الهندسي الدقيق للألياف داخل القزحية بالأشعة تحت الحمراء. وبالتالي، لا تستطيع العدسات العادية أو الملوّنة إخفاء النمط الداخلي بالكامل، إضافةً إلى أن العدسات المزوّدة بطبقة عاكسة Reflective or opaque lenses قد تعيق المسح موقتًا، لكن النظام سيكتشفها كـ “حجب غير طبيعي” ما يكشف عمليًا أي تعديل”.

ولذلك، وبحسب المصادر المواكبة تلجأ بعض الجهات العسكرية إلى ما يسمّى Facial Obfuscation Surgery وهي عمليات تستهدف فكّ الشفرة البيومترية وليس الشكل الظاهري فقط، وتلك العمليات معقدة، طويلة، ومكلفة ولا تُجرى إلّا لقيادات من الدرجات العليا.

“تصعيب المهمة من دون استحالة”

الاختصاصيّ في الاتصالات والخبير في التسويق الرقميّ بشير التغريني اعتبر أن “face recognition هو واحد من الاختبارات المعتمدة، كما أن الكاميرات الموجودة في كلّ المناطق والمخترقة يمكن لها أن تميّز كلّ قياديّ في “حزب اللّه” موجود في أماكن عامة. وعندها، يتمّ التأكّد من ملامح الوجه إضافةً إلى الصوت للتأكّد من الشخص المستهدف قبل عملية استهدافه واغتياله”.

وقال التغريني لـ “نداء الوطن”: “لقد كانوا يستخدمون منظومات مثل “لافندر” وغيرها، ولم يكن الأمر مقتصرًا على التعرّف على الوجوه أو قراءة ملامح العيون فقط. في الواقع، لم تكن الدقة في تحديد الهوية عبر الوجه وحده كبيرة إلى هذا الحدّ، الطائرات المسيّرة الإسرائيلية كانت تعمل استنادًا إلى معطيات شاملة تُجمع من عدّة مصادر: مثل الأصوات، الاتصالات الهاتفيّة، بيانات “فيسبوك” ونشاطات مواقع التواصل الاجتماعي، وتحركات الأشخاص”.

أضاف: “هذه البيانات المتراكمة كانت تمنحهم قدرة تقارب 99 % في تحديد الهدف وقصفه بواسطة الطائرات المسيّرة. أمّا الاستخدام المباشر لقراءة الوجه، فهو يكون أكثر ارتباطًا بعمليات استخباراتية دقيقة أو عمليات اغتيال ميدانية، حيث تُمرَّر الإشارة للطائرة قبل تنفيذ الضربة. لكن تجميل الوجوه أو تغطيتها لا يلغي القدرة على التعرّف الكامل، إنما يجعل العملية أكثر صعوبة قليلًا فقط، وليس مستحيلة”.

وتابع: “يمكن رؤية ذلك بوضوح ممّا يحدث اليوم في غزة، فحتى عندما كان بعض القادة والمقاتلين يغطّون وجوههم في السابق، كانت عمليات الاغتيال تُنفذ رغم ذلك. فـ “لافندر” وغيره من الأنظمة تطوّرت في العامين الأخيرين، ولم يعد الاعتماد قائمًا على الوجه فقط، بل أيضًا على نبرة الصوت، حرارة الجسد، نمط الحركة، وحتى نسب الظهور في الأماكن العامّة، وعلى سبيل المثال، الشخص الذي “اغتيل” مؤخرًا وكان مرافقًا شخصيًا لحسن نصر اللّه، تمّ تحديده مع ابنه من خلال تحركاتهما، ودرجة حرارة جسمه داخل السيارة، إضافةً إلى بيانات من وسائل التواصل الاجتماعي والصور المنشورة، فكلّ هذه العناصر تضافرت لتحديد الهدف بدقة”.

وأردف: “لذلك، القول إن تغطية الوجوه وحدها تحول دون التعرّف عليها، هو مبالغة، ليس خطأ تمامًا، لكنه ليس دقيقًا، فالمسألة أكثر تعقيدًا من مجرّد قناع أو تغيير في ملامح الوجه من خلال عمليات التجميل، فإسرائيل تُعتبر من أكثر الدول تطوّرًا في مجال الذكاء الاصطناعي العسكري والمراقبة البصرية، ولديها أجهزة مثل وحدة 8200 (الاستخبارات الإلكترونية) ووحدة أمان تستخدم أنظمة تحليل تعتمد على: كاميرات عالية الدقة وأقمار صناعية قادرة على تمييز الملامح البشريّة، وبرامج تعرّف على الوجوه (Facial Recognition Software) تطوّرها شركات إسرائيلية مثل: AnyVision (التي تعمل مع الجيش والشرطة الإسرائيلية)، Corsight AI، BriefCam (تُحلّل الفيديوات الضخمة وتحدّد الأشخاص آليًا)”.

من جهتها، جزمت مصادر عسكرية متابعة للملف بأنه “رغم تغيير ملامح الوجه ونجاح عمليات التجميل لدى عدد لا بأس به من قياديي “حزب اللّه”، فإن البيانات قيد التحديث الدائم (Update)، والتعديل في ملامح الوجه يمنح تأثيرًا موقتًا، وقد تُكشف هوية القيادي عبر بصمته الصوتية أو بصمة اليد أو بطاقة الائتمان، وليس بالضرورة عبر الوجه وتفاصيل ملامحه، ولا علم لدينا بمدى المعلومات التي يملكها الجانب الإسرائيلي عن الشخصية المستهدفة”.

أضافت المصادر عبر “نداء الوطن”: “إذا غيّر أحدهم ملامحه، فماذا عن صوته وبصماته وحركاته المالية والجغرافية ومحيطه البشري، أليس هو نفسه؟”.

وختمت المصادر: “تأثير تغيير ملامح الوجه محدود وموقت، ولا يوفر وسيلة مؤكّدة للهروب من الاستهداف، خصوصًا أن القيادي يواصل التحرك في المحيط الجغرافي نفسه الخاضع للرقابة. ولن يكون من الصعب على خوارزميات (Algorithm) الرصد كشفه”.

إقفال بعض مراكز التجميل جنوبًا: صدفة أم خيط جديد؟

في سياق داخلي موازٍ، نفذت مصلحة الصحّة في الأيام القليلة الماضية في النبطية جولة على مراكز التجميل المخالفة، وأقفلت مركزين بالشمع الأحمر لقيامهما بإجراءات تجميلية ذات طابع طبيّ من دون إشراف مختصين.

هذه الحملة تأتي تحت عنوان حماية الصحّة العامة، لكنها في الوقت نفسه تفسح المجال أمام سؤال: في بلد يُخضع فيه بعض القادة السياسيين والعسكريين أجسادهم لعمليات حسّاسة ذات طابع أمني رفيع، كيف تُترك سوق التجميل التجاري مشرّعة أمام مخالفين يجرون عمليات قادرة على تغيير الوجوه أيضًا، ولكن بشكل عشوائي وغير آمن؟

السياقان لا يرتبطان مباشرة، لكن وضعهما جنبًا إلى جنب يكشف مفارقة واضحة: في لبنان، التجميل ليس مسألة “مظهر” فقط، بل بات في بعض الحالات جزءًا من معركة الظلّ.

ريشار حرفوش
نداء الوطن

– إعلان –
اترك تعليق

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *