ليبانون ديبايت
في انتخابات نقابة المحامين الأخيرة، حاولت بعض القوى السياسية، وعلى رأسها “القوات اللبنانية”، الظهور في موقع المنتصر أو الإيحاء بأنها صاحبة الفضل في فوز النقيب عماد مرتينوس، إلا أن الوقائع والأرقام تؤكّد بوضوح أن هذا الفوز لم يكن نتاج أحزاب، ولا نتيجة ماكينة حزبية، بل كان أوّلًا وأخيرًا ثمرة قرار مهني حرّ اتّخذه المحامون. فالمزاج الذي حكم الصناديق هذه المرّة كان نقابيًا بحتًا، بعيدًا عن الاصطفافات السياسية التقليدية، ما جعل من مرتينوس المستفيد الأكبر من هذا التحوّل.
مرتينوس، الذي خاض دورات انتخابية سابقة وكان غالبًا يحلّ في الصدارة، حصد هذا العام فوزًا لا يمكن لأي جهة مصادرته أو إلصاقه بنفسها. فقد دخل الاستحقاق حاملًا صفة باتت شبه مفقودة في الحياة النقابية: الحياد والاستقلالية. وهو نفسه قال في خطاب النصر جملة حاسمة تُسقط أي محاولة لربط فوزه بجهة أو محور: “انتخبتم نقيب الحياد، الحياد الحقيقي، الحياد الصافي، الحياد الخالص، حياد الفعل لا حياد القول”. بهذه الكلمات رسم مرتينوس هويته النقابية بوضوح منذ اللحظة الأولى.
وتُظهر المقارنة بين أصوات المرشحين حجم هذا الواقع. ففي الدورة الأولى لانتخابات العضوية، نال مرشح “القوات اللبنانية” إيلي حشّاش 1798 صوتًا، فيما حصد مرتينوس في الدورة نفسها 3010 أصوات. ولو كانت أصوات مرتينوس قواتية بالكامل، لكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على حشّاش، أو أن يضيق الفارق بينهما، إلا أنّ الفارق الذي تجاوز 1200 صوت كشف بوضوح أن المحامين صوّتوا لشخص وفكرة ومسار مهني، لا لحزب أو اصطفاف سياسي.
وبالعودة إلى ما جرى قبل أسبوع في انتخابات نقابة المحامين في الشمال، حيث اضطرت “القوات اللبنانية” إلى سحب مرشّحها المحامي إيلي ضاهر قبل أيام من الاستحقاق بعدما تبيّن أنّ خوض المعركة بمرشح حزبي صرف سيؤدي إلى هزيمة مؤكدة، يتّضح أن المزاج النقابي شمالًا كما في بيروت يميل بوضوح نحو المرشح المستقل. وهذا الانسحاب يثبت أنّ “القوات” لم تكن لتملك القدرة منفردة على إيصال نقيب في بيروت، لولا أنّ مرتينوس يمتلك رصيدًا شخصيًا واسعًا وشبكة علاقات مهنية مكّنته من عبور الاستحقاق بثقة.
وفي السياق نفسه، لا يمكن إغفال حضور “حزب الكتائب اللبنانية”، الذي سجّل النتيجة الأعلى بين الأحزاب في انتخابات العضوية، إذ نال مرشّحه موريس الجميل 1966 صوتًا، متقدّمًا على مرشح “القوات”. هذا التقدّم يعكس قدرة تنظيمية واضحة داخل النقابة.
أمّا العقدة الأكثر حساسية فظهرت في البيئة الشيعية داخل النقابة، حيث تكررت “النكبة” كما وصفها بعض المحامين، بعدما حجبت الكتائب أصواتها عن المرشحين الشيعة في انتخابات العضوية، تمامًا كما فعل “التيار الوطني الحر” قبل عامين. والسيناريو نفسه تكرّر هذا العام مع مرشح “تيار المستقبل” الذي لم يحصل على دعم الكتائب.
هذا السلوك الانتخابي في معركة العضوية ترافق مع ردّ فعل مباشر في انتخابات النقيب، إذ حجب عدد كبير من المحامين الشيعة والسنّة أصواتهم عن مرشح الكتائب إيلي بازرلي، ووجّهوها نحو المرشح المستقل عماد مرتينوس، في تمرد واضح على خيارات “الثنائي الشيعي” و“تيار المستقبل”. وتشير المعطيات إلى أن ما يقارب 700 محامٍ شيعي وسنّي صوّتوا لمرتـينوس، ما شكّل كتلة وازنة ساهمت في ترجيح كفّته. بالتوازي، برز موقف شريحة واسعة من المحامين الشيعة الذين عاقبوا “التيار الوطني الحر” ولم ينتخبوا مرشّحه، في تبدّل يعكس تحوّلًا عميقًا في خيارات هذه القاعدة النقابية.
وفي المحصّلة، تلقّت أربعة أحزاب أساسية ضربة موجعة بعد سقوط المرشحين المدعومين من “الثنائي الشيعي” (أمل وحزب الله)، و“تيار المستقبل”، و“التيار الوطني الحر”، وهي قوى كانت تاريخيًا ذات حضور مؤثر داخل النقابة. فقد خرج من السباق كلّ من وسيم أبي طايع، توفيق النويري، وسعاد شعيب، إلى جانب مرشحين آخرين من المكوّنين السنّي والشيعي، بينهم مايا شهاب، سهى الأسعد، ومحمد شريم. هذا الخروج الجماعي عكس تراجع النفوذ الحزبي داخل المجلس الجديد، مقابل صعود خيار المحامين المستقلّين.
في المقابل، استعادت الطائفة الدرزية حضورها داخل المجلس بعد سنوات من الغياب عبر فوز المحامي نديم حمادة عن “الحزب التقدمي الاشتراكي”، في خطوة وُصفت بأنها تصحيح لمسار تمثيلي غاب طويلًا.
النتائج بمجملها كرّست حقيقة واحدة يصعب تجاهلها: وحده عماد مرتينوس هزم الأحزاب. انتصاره لم يكن نتيجة ماكينة منظّمة ولا ترجمة لتحالف سياسي، بل حصيلة رصيد مهني واسع، وشبكة علاقات قوية، ومسار طويل من العمل الجدي داخل النقابة. لم تنتصر القوات، ولم ينتصر المستقبل، ولا الثنائي الشيعي، ولا التيار الوطني الحر. وحده “حزب الكتائب” سجّل حضورًا جيدًا بين الأحزاب، وإلى جانبه “الحزب التقدمي الاشتراكي”، لكن الكلمة الفصل بقيت للمحامين الذين حسموا خيارهم نحو الاستقلالية.
هذه الانتخابات قالت ما بات ثابتًا: نقابة المحامين ليست ساحة صراع حزبي، بل مساحة مهنية حرّة تعود لأصحابها. وما حدث لم يكن مجرد فوز بمقعد نقيب، بل استعادة لدور النقابة وهويتها ووزنها في الحياة العامة. وفي هذا الزمن، ذلك وحده إنجاز يُكتب ويُسجَّل.

