يبدو أن اقتراح رئيس الجمهورية بفتح باب التفاوض مع إسرائيل ضمن إطار سيادي واضح وتحت مظلة الدولة شكّل زلزالًا سياسيًا في الداخل اللبناني. زلزالًا ليس لأن اللبنانيين يرفضون فكرة حماية أرضهم أو تثبيت حقوقهم، بل لأن هناك من اعتاد أن يحتكر قرار الحرب والسلم، ويرى في أي مبادرة تصدر عن الدولة تهديدًا لسلطته الخاصة.
فور صدور الموقف الرئاسي، سارع “الثنائي الشيعي” إلى رفع لواء الرفض، مُصوِّرًا الاقتراح وكأنه تنازل أو تطبيع. لكن المفارقة الفاضحة، أن هؤلاء أنفسهم كانوا أول من جلس على طاولة التفاوض وبشكل مباشر وغير مباشر سواء في اتفاق ترسيم الحدود البحرية عام 2022، أو في قنوات التواصل غير المعلنة التي أفضت إلى وقف إطلاق النار أكثر من مرة.
أيّ منطق هذا؟
حين تفاوض حزب الله وغطّاه الرئيس بري، قيل إن التفاوض “مقاومة بالسياسة”. لكن حين يطرح رئيس الجمهورية حوارًا برعاية الدولة، يصبح الأمر خيانة؟
الحقيقة أن المسألة ليست في شكل التفاوض، بل في من يتولى التفاوض.
الثنائي يخشى ببساطة أن ينتزع رئيس الجمهورية والحكومة من يدهما ورقة القرار، تلك الورقة التي استخدماها لعقود لتبرير السلاح والهيمنة على مؤسسات الدولة.
فالتفاوض، حين يكون عبر الدولة، يُسقط وهم “الممثل الحصري للمقاومة”، ويعيد الشرعية إلى موقعها الطبيعي: قصر بعبدا والسراي الحكومي، لا الضاحية الجنوبية.
اقتراح الرئيس ليس انحيازًا لمحور ولا دعوة للتطبيع، بل محاولة لكسر الجمود القاتل وفتح نافذة إنقاذ ضمن سقف السيادة اللبنانية.
وهو في جوهره طرحٌ يعيد الاعتبار إلى الدولة كإطار وحيد لصنع القرار الوطني.
من يرفض التفاوض اليوم، بعد أن فاوض بالأمس وتنازل في البحر، يُعرّي نفسه لا خصمه.
من سلّم البلوكات النفطية لإسرائيل باسم “المصلحة الوطنية”، لا يحق له أن يزايد على من يسعى لتثبيت حقوق لبنان بالشرعية الدولية.
ومن يفاوض في الظل ثم يهاجم الدولة حين ترفع رأسها، إنما يثبت أنه يخاف النور، لا العدو.
اقتراح التفاوض ليس مغامرة. هو خيار الإنقاذ الأخير لدولة لم يبقَ منها سوى الاسم.
فإمّا أن تستعيد الدولة قرارها وسيادتها عبر مفاوضات تحفظ الكرامة والمصلحة، أو يبقى لبنان رهينة السلاح والازدواجية، يُدار بالرسائل لا بالمؤسسات.
-نعيم القصيفي

