يسود القلق في لبنان بين الشعب والمسؤولين نتيجة التحركات العسكرية الإسرائيلية التي يرجّح كثير من الخبراء العسكريين أنها استعدادات لحرب جديدة ضد “حزب الله”. لذلك تقاطعت المعلومات عن حركة نزوح من الضاحية الجنوبية باتجاه المناطق الأكثر أمانًا، وقد عزّز هذه المخاوف تحليق طائرات مسيّرة إسرائيلية على مدار الـ24 ساعة فوق مناطق لبنانية عديدة وخصوصًا الضاحية الجنوبية.
من جهة أخرى، ربط كثيرون تنبيهات الموفد الدبلوماسي الأميركي توم برّاك الصريحة للمسؤولين اللبنانيين بضرورة الإسراع في نزع سلاح “الحزب” بالمناورات العسكرية التي أجرَاهَا الجيش الإسرائيلي منذ أيام على الحدود اللبنانية–الإسرائيلية، التي تحاكي حربًا برّية داخل الأراضي اللبنانية؛ وهو سبب إضافي ومنطقي للقلق إذا ما ربطناها بتهديدات المسؤولين الإسرائيليين، ولا سيما الأجندة التي أفصح عنها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو برغبته في القضاء على محور الممانعة في السنة المقبلة واقتراب الانتهاء من ملف حركة “حماس” في قطاع غزة، ما سيجعل الجيش الإسرائيلي أكثر ارتياحًا للتفرّغ للجبهة الشمالية.
ويكشف المنسق السابق للحكومة اللبنانية لدى اليونيفيل، العميد منير شحادة، عملية الرصد الإسرائيلي بالمسيّرات من خلال الشرح عن أنواعها، لافتًا إلى أن هناك نوعًا يحمل كاميرات دقيقة يصور ويُراقب، نوع آخر يأخذ دور أعمدة إرسال الخليوي ومهمته التجسّس على الاتصالات الخليوية، أما النوع الثالث فهو ذو دور قتالي، محمّل بالصواريخ ويستهدف قياديين ميدانيين لـ”الحزب”.
حتمية الهجوم البري
في المقابل، يرى الباحث في شؤون الإرهاب بيار جبّور أن تكرار تحليق المسيّرات على علو منخفض يزيد من قدرتها على كشف تحركات المشاة والمركبات الآلية ويؤشّر إلى مرحلة متقدّمة لعمليات دقيقة وتنفيذ ضربات، لكن هذا لا يعني حتمية الهجوم البري، إنما يرفع جهوزية الضربات الجوية الموجّهة.
لكن العميد شحادة يؤكّد أن حركة المسيّرات لم تتوقّف منذ 27 تشرين الثاني 2024، أي منذ تاريخ الموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار، بحيث تواصل إسرائيل انتهاك سماء لبنان يوميًا من جنوبه إلى شماله. ويشير إلى أنه توقّع التصعيد الإسرائيلي ضد لبنان منذ صدور قرار الحكومة بحصر السلاح وموافقتها على خطة الجيش اللبناني، لأن القرار نزَع فتيل الانفجار، وهذا ما أزعج إسرائيل. وتوقّع شحادة تصعيدًا بالقصف الجوي يطال عددًا من المناطق حتى العمق اللبناني الذي يشمل السلسلة الشرقية والغربية والبقاع، كرسالة تعبّر عن عدم رضى إسرائيل عن الخطة، لأنها تريد نزع سلاح المقاومة فورًا ولو على حساب السلم الأهلي اللبناني
يبدو أن إسرائيل لم تقم بذلك، خلافًا لتوقعات شحادة، بسبب الضغوط الأميركية؛ لكن الموفد الدبلوماسي الأميركي برّاك كان واضحًا بأن المهلة الممنوحة للبنان كي يجد حلاً لمسألة السلاح تكاد تنتهي، ولّمَح إلى أن إسرائيل قد تقوم بتنفيذ هذه المهمة عسكريًا. ويلفت جبّور إلى أن برّاك أطلق، بتكليف من إدارته، مبادرة دبلوماسية تهدف إلى إعادة ترتيب قواعد الاشتباك، وهو يكرّر تحذيراته التي تبدو كأداة للضغط السياسي على الدولة اللبنانية الرسمية؛ بل أبعد من ذلك، تحذيراته تؤمّن الغطاء السياسي الأميركي لأي عمل عسكري إسرائيلي. ونلاحظ أن نشاطًا عسكريًا متسارعًا يلازم كل تحرّك دبلوماسي لبرّاك، وهذه ليست صدفة.
لم تكن المناورة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة على الحدود اللبنانية بعيدة عن أجواء التصعيد والضغط المتواصل. ويكشف جبّور أن لهذه المناورات وظيفة مزدوجة: الأولى، تحضير للوضعيات المختلفة للدفاع عن شمال إسرائيل وإخلاء البلدات الحدودية، ونقل قوات الاحتياط والسيطرة على الميدان. والثانية، رسائل ردع وإظهار قدرة تعبئة سريعة وإمكانية توسيع العمليات. أما الأهم فهو إرسال إشارة إلى الدولة اللبنانية و”الحزب” بأن الجيش الإسرائيلي أصبح في حالة جهوزية تامة، لكن هذا لا يعني بالضرورة حربًا أو تصعيدًا.
أما العميد شحادة فيعتبر أن “المناورات رسالة واضحة من إسرائيل بأنها قد تقوم بعمل عسكري ضد لبنان”، وتأتي هذه الرسالة لتُكمّل ما أدلى به المبعوث الأميركي برّاك. إلا أنه يجب الانتباه إلى أمر معيّن، وهو أنه منذ شهر كانت إسرائيل والولايات المتحدة تسعيان إلى إنهاء عمل قوات الطوارئ الدولية في جنوب لبنان، ولم يكن الهدف، كما أعلن، أن تلك القوات لا تقوم بدورها، إنما بسبب الأهداف الإسرائيلية التي تريد أن تحتل منطقة جنوب الليطاني على نحو كامل. لكنهما لم ينجحا في ذلك وتمّت الموافقة على التمديد لليونيفيل حتى نهاية سنة 2026. ويشرح شحادة أن إسرائيل تفضّل أن تقوم بهذا الاجتياح من دون وجود قوات الطوارئ الدولية، وخصوصًا أن المنطقة شاسعة بطول 120 كيلومترًا وعمق 30 كيلومترًا، وسيكون محرجًا لإسرائيل أن تفعل ذلك بوجود آلاف الجنود من جنسيات مختلفة
لا يرى شحادة أن إسرائيل بحاجة إلى اجتياح الجنوب حاليًا لأنها فرضت أمرًا واقعًا؛ إذ تقصف متى تشاء وأينما تشاء دون أي رادع — لا مجتمع دولي ولا قرارات دولية ولا آلية تردعها. فهي تملك حرية حركة في المنطقة بضوء أخضر أميركي، وليس لبنان فقط، إنما سوريا وقطر أيضًا، وتتجاوز بوقاحتها كل حدود وتتخلى عن كل الاتفاقات.
لا شك في أن هذه الأجواء أثّرت على بيئة “الحزب” في الضاحية الجنوبية. ويؤكّد جبّور أن النزوح المدني يغيّر في طبيعة القتال، وأن تراجع عدد المدنيين في الضاحية وغيرها يُسهّل على إسرائيل عمليات القصف ويحررها من العبء الإنساني والضغط الدولي، ويأتي ذلك من ضمن شروط الحرب النفسية.
من جهته، يستبعد شحادة تصعيدًا كبيرًا على جبهتي غزة ولبنان، ويتوقّع أن تبقى الوضعية كما هي من دون تغيير. وبمجرد أن ينتهي نتنياهو من قضية إعادة الرهائن، سيتملّص من اتفاق وقف إطلاق النار لتنفيذ خطة إفراغ غزة من سكانها، ويفعل ذلك من خلال قصف مدمر ليس بحاجة إلى إدخال جنود. أما الجبهة الأساسية فستكون سوريا التي يريد الإسرائيلي تقسيمها، ما سيؤدي إلى تقسيم المنطقة ككل. والأفضلية الثانية هي الحرب مع إيران التي قد تُنخرط فيها واشنطن، وعندئذٍ ستتوسع إسرائيل في كل الاتجاهات لتحقيق حلمها بإسرائيل الكبرى الذي تحدث عنه نتنياهو مرارًا وتكرارًا. لذلك لا أتوقّع حربًا برّية إسرائيلية حالياً على لبنان، إنما قصفًا جوّيًا فقط.
تختلف مقاربة جبّور على هذا الصعيد. وهو يرى ترابطًا بين جبهتي غزة ولبنان من ناحيتين: الأولى، إذا شعرت تل أبيب بأن تهديد “حماس” تضاءل وباتت غزة تحت السيطرة بدرجة كافية، سيكون لها حرية التحرك في الشمال وستضع كل مواردها في جبهة واحدة. والثانية، جهود احتواء وتدمير قدرات “حماس” بأسرع الطرق السياسية والعسكرية والقدرة على فتح جبهة أخرى دون تكلفة عالية داخليًا ودوليًا. وأي رغبة في توسيع العمليات على “الحزب” غالبًا ما تأخذ إسرائيل في الاعتبار حالة الجبهة الجنوبية ضد “حماس” ومدى استنزاف القدرات.
سيناريوهات لعملية عسكرية
ويضع جبّور ثلاثة سيناريوهات لعملية عسكرية ضد “الحزب”: الأول محدود ودقيق، فتضرب إسرائيل أهدافًا معيّنة تشمل قيادات ميدانية لـ”الحزب”، مخازن أسلحة، منصات صواريخ متحرّكة، بنى تحتية، وغرف عمليات؛ والهدف، وفق جبّور، إلحاق ضرر تكتيكي وهزّ المعنويات من دون فتح جبهة برّية كبيرة. الثاني سيناريو متدرّج ومتوسّط، أي هجمات على مواقع دفاع جويّ وتدمير أنفاق ومخازن استراتيجية وضرب بنى تحتية لوجستية، واحتمال توسيع الضربات لقطع طريق الإمدادات بين البقاع والجنوب ونسف الجسور والطرقات الاستراتيجية، ويترافق ذلك مع عمليات برّية محدودة. السيناريو الثالث هو اجتياح برّي وجوي وبحري واسع؛ يرى جبّور أن احتماله ضعيف “لأن تكلفته مرتفعة، إنما إذا حصل، فهدفه تقليص القدرات الصاروخية وكل الأنظمة القتالية الضخمة لـ’الحزب’ وإنشاء شريط أمني داخل جنوب لبنان”. ويشير إلى ثلاث مناطق أمنية قد تنشئها إسرائيل في الجنوب: الأولى من الحدود لمسافة 6 كيلومترات تُنشر فيها قوات أميركية وأوروبية بعد مغادرة اليونيفيل، الثانية من منتصف المنطقة الجنوبية إلى شمال نهر الليطاني ستنتشر فيها قوات أميركية وأوروبية إلى جانب الجيش اللبناني، والثالثة من شمال الليطاني إلى نهر الأوّلي تكون السلطة اللبنانية مسؤولة عنها وتُخلى من السلاح أو أي نشاط عسكري
في المقابل، يأخذ العميد شحادة كلام الأمين العام لـ”الحزب” نعيم قاسم على محمل الجد، وخصوصًا ما صرّح به مرات عدة بأن “الحزب” تعافى، وأنه سيردّ إذا أقدمت إسرائيل على عدوان واسع. لكن هناك ورقة ضاغطة على “المقاومة” على صعيد الرد، من خلال المليوني نازح المتوقعين؛ إذ قد تُقدِم إسرائيل على قصف شخصيات مقرّبة من “الحزب” في مناطق بعيدة عن نفوذه، ما سيؤدي إلى دمار ونقمة من مكوّنات أخرى في البلد. كما قد تمارس إسرائيل الضغط بقصف البنى التحتية للدولة اللبنانية كالمطار والمرفأ والكهرباء لإثارة الرأي العام ضد المقاومة.
لكن شحادة يرى حربًا على إيران في الأفق، ما سيحوّل الصراع من لبنان إلى كل المنطقة على نحو شامل؛ وستكون المقاومة في لبنان جزءًا من هذه الحرب. ويشير إلى أن “الحزب” حتى ولو لم تحصل حرب كبيرة، فسيكون مجال ردّه متاحًا في حال صعّدت إسرائيل من اعتداءاتها عليه، معتبرًا النقاط الخمس أو السبع التي احتلّتها إسرائيل في الجنوب أرضًا محتلة.
قد يكون “الحزب” أعاد تنظيم نفسه جزئيًا بعد خسائر كبيرة في العامين المنصرمين، لكن جبّور يؤكّد أن قدراته لم تعد إلى المستوى الذي كان عليه قبل 7 تشرين الأول 2023؛ لذلك سيعتمد في أي قتال مستقبلي على حرب العصابات التي تقوم بها مجموعات منفصلة لا تضطر إلى التواصل المستمر مع القيادة، وستبقى ردوده محدودة أمام التفوّق العسكري الإسرائيلي على كل المستويات.
– المدن – جورج حايك