في كل مرحلة مصيرية من تاريخ لبنان، كان الهروب من الواقع هو خطيئتنا الكبرى.
واليوم، حين تدقّ ساعة الخيارات الصعبة، يعود الخطاب ذاته ليتكرر: “لا للتفاوض، لا للاعتراف، لا للتطبيع”. لكن الحقيقة القاسية أنّنا لم نعد في موقع من يقول “لا” لأي شيء. نحن اليوم في موقع من يُملى عليه كل شيء سياسيًا، اقتصاديًا، وأمنيًا.
من بيروت إلى الناقورة، ومن واشنطن إلى طهران، تدور عجلة تفاوضٍ لن ينتظر لبنان طويلاً ليلتحق بها. لأن الرفض لم يعد بطولية، بل عجزًا. ولأن الشعارات لم تعد درعًا للكرامة، بل غطاءً للعزلة.
الرئيس نبيه بري وحزب الله يرفضان فكرة التفاوض مع إسرائيل، وكأن في الرفض بطولةً تحفظ السيادة، أو في الحوار خيانةً تُسقطها. لكن الحقيقة أن السيادة اليوم تُستعاد بالقرار لا بالمقاومة وحدها، وبالدولة لا بالسلاح.
لقد جرّبنا كل أشكال المواجهة، فماذا كانت النتيجة؟ دمارٌ في الجنوب، نزيفٌ اقتصادي، ونزوحٌ داخلي لم يشهد له لبنان مثيلاً منذ عقود.
ما لم يفهمه الثنائي بعد، هو أن التفاوض لا يعني الاستسلام، بل بداية الحل، وحان الوقت ان يعي الثنائي بأن مصلحة لبنان لا تختصر بخطابٍ أيديولوجي ولا بقرارٍ إقليميّ، بل بإرادة شعبٍ يريد أن يعيش.
فليتذكّر الرئيس بري أنه هو نفسه من فاوض الأميركيين في اتفاق نيسان 1996، وأن حزب الله جلس غير مرة على الطاولة في الدوحة، وفي جنيف، وفي تفاهمات ما بعد 2006، وانهما فاوضا ووقعا على الترسيم البحري واتفاق وقف اطلاق النار الأخير.
فلماذا يصبح الحوار اليوم حرامًا؟
ولماذا يُمنع لبنان من التنفّس، بحجة “الرفض” بينما العالم بأسره يفاوض، حتى خصوم الأمس؟
لقد آن الأوان لأن نكسر هذا القيد الطائفي والسياسي معًا.
آن للبنان أن يفاوض باسم الدولة، لا باسم السلاح.
آن لبري وحزب الله أن يقتنعا بأن محور الحروب لا يبني مستقبل، وأن الصمود من دون أفقٍ سياسي هو انتحار وطني.
التفاوض ليس خيارًا بين الخيانة والبطولة، بل بين الموت والحياة.
وكل من يعارض الجلوس إلى الطاولة اليوم، يحكم على لبنان بالزوال غدًا.
في النهاية، لا أحد يطلب من لبنان أن ينسى حقوقه، بل أن يستعيدها بالعقل لا بالشعار.
-نعيم القصيفي